أطفال الجنة، لمحمود رفعت

في البدء لجأ المشاهِد إلى السينما للهو والترفيه، ولجأ إليها صُنّاعُها للتكسب والاسترزاق، ثم انتشرت وأصبح للعاملين بها شأنٌ فلجأ إليها مَن يبحث عن الرزق والشهرة في آن، ولأنها كانت -وما زالت- مجرد استثمار، وهي استثمار لا يؤتي ربحه إلا بعد الانتهاء منه والإنفاق عليه، وقد يكون الإنفاق كبيرًا، خاف صانعوها من المخاطرة والمغامرة، ولهذا يمكنك أن ترى في الأفلام القديمة كلها تقريبا وكثيرٍ جدا من الأفلام الحديثة عناصر ثابتة لا تتغير، من مثل البطل الشاب القوي الوسيم والبطلة الشابة الجميلة، والقصص التي تدور في سياقات شبه ثابتة عن الحب والزواج وما إلى هنالك.

ثم أصبح جليًّا للجميع أن هذه الوسيلة التي تُبكي المشاهد وتضحكه يمكنها أن تؤثر عليه تأثيرا أكبر مما كان يتخيله صانعوها الأوائل، كما أصبح جليا للدول النامية التي كانت تكافح آنذاك لنيل استقلالها ومحاربة الاستعمار في داخلها وفيما حولها آثار هذه الوسيلة السحرية في توحيد الشعوب وتوجيهها للصواب والخطأ على السواء، ولهذا بدأ استغلال هذه الوسيلة للتأثير في الشعوب ونشر الأفكار التي توافق كل دولة وكل صانع مع الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من عناصر النجاح التي تضمن للاستثمار ألا يفشل أو يخسر الأموال الطائلة المنفقة عليه.

واستفادت هذه الصناعة استفادة كبيرة من اختلاف المذاهب والأفكار التي كانت في تلك الحقبة، وجعلها هذا برغم التقدم والتطور وكثرة الأفلام تدور كلها في سياق نشر كل صانع لفكره ومهاجمة الأفكار المخالفة، وابتدعوا في سبيل ذلك وسائل كثيرة كلها تدور في الفلك نفسه، ثم اختفت معظم هذه الأفكار شيئًا فشيئًا، وصارت الساحة خالية أو شبه خالية إلا من الأفكار الغربية الرأسمالية وحدها، وهنا بدأ عهد جديد من عهود السينما العالمية، ومضت تلك الصناعة في سبيلها، وأصابها ضعف الأفكار، فصارت تبحث عن أفكار جديدة غريبة، وصار المشاهد متلهفا لكل ما هو جديد وإن كان غريبا موغلا في الغرابة، وهنا انتشرت نوعيات من الأفلام التي ما كان لها أن تنتشر في الماضي من مثل الخيال العلمي والأبطال الخارقين وما يشبه هذا، وحتى الأفلام الاجتماعية صارت تدّعي الأهمية لقضايا سخيفة أو غريبة وتحاول أن تجد لتلك المشكلات المزعومة حلولا وتوجه الناس للتفكير فيها بطرق جديدة مستحدثة لم يسمع بها أحد من قبل، ولم تُثبِت في أية مرحلة من مراحل الإنسانية نجاحا يُذكر، ثم إن هناك مع هذا كله حملات تشوّه كل مَن يحاول الإشارة للقبح الذي سيطر على أذواق الصنّاع وما انحطّ إليه إبداعهم، وصار الناس يحاولون مجاراة ما يقع على الساحة الثقافية والفنية برغم فساده وخطئه، وفي مثل هذه الأجواء صارت الأفلام الجيدة قليلة جدا، وصار أجودها أقلها احتواء على قبائح هذا العصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لم أَسُقْ فيما سبق إلا بعض البدهيات، ولولا أن أشق على القارئ لذكرتُ بدهيات مهمة أكثر، لكن ليس من أجل ذلك كُتِب هذا المقال، إنما كتبتُه لأدعوك لمشاهدة فيلم بديع لصانع عبقري لم يأخذ حقه للأسف الشديد، ولو عرف الناس قدره لعرفوا أنه أولى بمعظم الجوائز والتقارير التي يحظى بها قوم لا يضارعونه في الموهبة والإتقان، إنه المخرج الإيراني العبقري مجيد مجيدي، وفيلمه الذي أدعوك لمشاهدته فيلم (أطفال الجنة)، وقد وضعتُ لك إعلانين له أحدهما بلغته الأصلية والآخر بالإنكليزية حتى تستطيع العثور عليه، وهو منشور على الإنترنت بجودة عالية، وترجمتاه للعربية والإنكليزية متاحتان.

لم يخترع الفيلم عالما خياليًّا، ولا اعتمد على إمكانات جبارة وإنتاج مبالغ فيه، بل صُنع بأقل الإمكانات للتعبير عن شعور طبيعي لا يخلو منه إنسان، واستطاع برغم شظف عيش أبطاله وشدة ما يجدونه أن ينقلك إلى عالمهم وأن تعيش معهم كل لحظة مستمتعا ومتألما في آن.

إنني لا أدعوك إلى عمل فني، ولكن إلى أن تحلّق بهذا الفيلم في فضاء إنساني رفيع بديع رائع يمكنه أن يوقظ مشاعرك النبيلة كلها وأن يأخذ بيدك إلى تهذيب نفسك وإصلاح بعض ما لا يعرفه غيرك فيها.

Related posts

Leave a Comment